فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له، فقالت له: وعلى فراشي أيضا؟! فجحد، فقالت له: فاقرأ القرآن، فقال:
وفينا رَسُولُ الله يَتْلُو كتابَه ** إِذا انشقَّ مشهورٌ مِنَ الصُّبْح طالِع

يَبِيتُ يُجَافي جنْبَهُ عن فِراشه ** إِذا استثقلتْ بالكافرين المَضاجعُ

فقالت: آمنتُ بالله، وكذبت بصري، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فضحك وأعجبه ما صنع.
وعرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: كيف لبنها؟ قال: احلبْ في أيِّ إِناءٍ شئتَ، قال: كيف الوِطاء؟ قال افرش ونم، قال: كيف نجاؤها؟ قال: إِذا رأيتَها في الإِبل عرفتَ مكانها، علِّق سوطكَ وسِرْ، قال: كيف قُوَّتها؟ قال: احمل على الحائط ما شئتَ؛ فاستصراها فلم يَرَ شيئًا مما وصف، فرجع إِليه، فقال: لم أرَ فيها شيئًا مما وصفتَها به، قال: ما كذبتك، قال: أَقِلْني، قال: نعم.
وخرج شريح من عند زياد وهو مريض، فقيل له: كيف وجدت الأمير؟ قال: تركتُه يأمر ويَنهى، فقيل له: ما معنى يأمر وينهى؟ قال: يأمر بالوصية، وينهى عن النَّوح.
وأخذ محمد بن يوسف حجرًا المدري فقال: العن عليًّا، فقال: إِن الأمير أمرني أن ألعن عليًّا محمد بن يوسف، فالعنوه، لعنه الله.
وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن عليّ، فقال: لعن اللهُ من لعن اللهُ ولعن عليٌّ، ثم قال: إِن هذا الأمير قد أبى إِلا أن ألعن عليًّا، فالعنوه، لعنه الله.
وامتحنت الخوارج رجلًا من الشيعة، فجعل يقول: أنا مِنْ على ومِنْ عثمان بريء.
وخطب رجل امرأةً وتحته أخرى، فقالوا: لا نزوِّجك حتى تطلِّق امرأتك، فقال: اشهدوا أني قد طلقت ثلاثًا، فزوَّجوه، فأقام مع المرأة الأولى، فادَّعوا أنه قد طلّق، فقال: أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلَّقتُها، ثم فلانة فطلَّقتُها، ثم فلانة فطلَّقتُها؟ قالوا: بلى، قال: فقد طلَّقتُ ثلاثًا.
وحكي أن رجلًا عثر به الطائف ليلة، فقال له: من أنت؟ فقال:
أنا ابنُ الذي لا يُنْزَل الدهرَ قِدرُه ** وإِن نزلتْ يوما فسَوف تعود

ترى الناسَ أفواجًا إِلى ضوءِ ناره ** فمنهم قيام حولها وقعود

فظنَّ الطائف أنه ابن بعض الأشراف بالبصرة، فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو ابن باقلائي.
ومثل هذا كثير.
قوله تعالى: {فرجعوا إِلى أنفسهم} فيه قولان:
أحدهما: رجع بعضهم إِلى بعض.
والثاني: رجع كلٌّ منهم إِلى نفسه متفكِّرًا.
قوله تعالى: {فقالوا إِنكم أنتم الظالمون} فيه خمسة أقوال:
أحدها: حين عبدتم من لا يتكلم، قاله ابن عباس.
والثاني: حين تتركون آلهتكم وحدها، وتذهبون، قاله وهب بن منبه.
والثالث: في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير، روي عن وهب أيضًا.
والرابع: لإبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام، قاله ابن إِسحاق، ومقاتل.
والخامس: أنتم ظالمون لإبراهيم حين سألتموه، وهذه أصنامكم حاضرة، فاسألوها، ذكره ابن جرير.
قوله تعالى: {ثم نُكِسوا على رؤوسهم} وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة: {نُكِّسوا} برفع النون وكسر الكاف مشددة.
وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: {نَكَسوا} بفتح النون والكاف مخفَّفة.
قال أبو عبيدة: {نُكِسوا}: قُلِبوا، تقول: نكستُ فلانًا على رأسه: إِذا قهرته وعلوته.
ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال:
أحدها: أدركتْهم حيرةٌ، فقالوا: {لقد علمتَ ما هؤلاءِ يَنْطِقُون}، قاله قتادة.
والثاني: رجعوا إِلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق، قاله ابن قتيبة.
والثالث: انقلبوا على إبراهيم يحتجُّون عليه بعد أن أقرُّوا له ولاموا أنفسهم في تهمته، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وفي قوله: {لقد علمتَ} إِضمار {قالوا}، وفي هذا إِقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النُّطق، فحينئذ توجهت لإبراهيم الحُجَّة، فقال موبّخًا لهم: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم} أي: لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئًا {ولا يضرُّكم} إِذا لم تعبدوه، وفي هذا حثٌّ لهم على عبادة من يملك النفع والضُّر، {أفٍّ لكم} قال الزجاج: معناه: النتن لكم؛ فلما ألزمهم الحجة غضبوا، فقالوا: {حرِّقوه}.
وذُكر في التفسير أن نمرود استشارهم، بأيِّ عذاب أعذِّبه، فقال رجل: حرِّقوه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إِلى يوم القيامة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا يا إبراهيم} فيه أربع مسائل:
الأولى: لما لم يكن السماع عامًا ولا ثبتت الشهادة، استفهموه هل فعل أم لا؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتي به فقالوا: أأنت فعلت هذا بالآلهة؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم.
فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين؛ تنبيهًا لهم على فساد اعتقادهم.
كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء.
وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ}.
وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون.
بين أن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد.
وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب.
أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل.
وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض.
وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال إبراهيم لأبيه: {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] الآية فقال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون؛ فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه: {هذا رَبِّي} وهذه أختي و{إِنِّي سَقِيمٌ} و{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وقرأ ابن السميقع {بل فَعَلَّهُ} بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم.
وقال الكسائي؛ الوقف عند قوله: {بل فعله} أي فعله من فعله؛ ثم يبتدىء {كَبِيُرُهم هذا}.
وقيل: أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر.
أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلًا؛ والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم.
الثانية: روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث، قوله: {إِني سقِيم} وقوله: لسارة أختي وقوله: {بل فعله كبِيرهم}» لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
ووقع في الإسراء في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب {هذا ربي}.
فعلى هذا تكون الكذبات أربعًا إلا أن الرسول عليه السلام قد نفى تلك بقوله: «لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بل فعله كبِيرهم} وواحدة في شأن سارة» الحديث لفظ مسلم.
وإنما لم يعد عليه قوله في الكوكب: {هذا ربي} كذبة وهي داخلة في الكذب؛ لأنه والله أعلم كان حين قال ذلك في حال الطفولية، وليست حالة تكليف.
أو قال لقومه مستفهمًا لهم على جهة التوبيخ والإنكار، وحذفت همزة الاستفهام.
أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيهًا على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية.
وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في الأنعام مبينة والحمد لله.
الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: «لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين مَاحَلَ بهما عن دين الله وهما قوله: {إِني سقِيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم}» ولم يعدّ قوله هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروهًا، ولَكِنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} [الزمر: 3]. وهذا لو صدر منا لكان لله، لَكِن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم.
الرابعة: قال علماؤنا: الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه.
والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن كانت معاريض وحسنات وحججًا في الخلق ودلالات، لَكِنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة؛ فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم إجلالًا لله؛ فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوّة والخُلَّة، أن يصدع بالحق ويصرح بالأمر كيفما كان، ولَكِنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة؛ ولهذا جاء في حديث الشفاعة: «إنما اتخذت خليلًا من وراء وراء» بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا: جاري بَيْتَ بَيْتَ، ووقع في بعض نسخ مسلم «من وراءُ من وراءُ» بإعادة من، وحينئذٍ لا يجوز البناء على الفتح، وإنما يبنى كل واحد منهما على الضم؛ لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف؛ لأن ألفه للتأنيث؛ لأنهم قالوا في تصغيرها وريية؛ قال الجوهري: وهي شاذة.
فعلى هذا يصح الفتح فيهما مع وجود من فيهما.
والمعنى إني كنت خليلًا متأخرًا عن غيري.
ويستفاد من هذا أن الخُلَّة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم.
وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه.
{فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس.
قوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} أي عادوا إلى جهلهم وعنادهم فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} فـ: {قَالَ} قاطعًا لما به يهذون، ومفحمًا لهم فيما يتقوَّلون {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ} أي النَّتن لكم {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
وقيل: {نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي طأطَؤا رءوسهم خجلًا من إبراهيم، وفيه نظر؛ لأنه لم يقل نكسوا رءوسهم، بفتح الكاف بل قال: {نُكِسُوا علَى رَءُوسِهِمْ} أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر، وكذا قال ابن عباس، قال: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا}.
مشيرًا إلى الذي لم يكسِرْه، سلك عليه السلام مسلكًا تعريضيًا يؤديه إلى مقصِده الذي هو إلزامُهم الحجّةَ على ألطف وجهٍ وأحسنِه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب، حيث أبرز الكبيرَ قولًا في معرض المباشِرِ للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرِض فعلًا بجعل الفأسَ في عنقه، وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبيب حيث كانت تلك الأصنامُ غاظته عليه السلام حين أبصرها مصطفةً مرتّبةً للعبادة من دون الله سبحانه، وكان غيظُ كبيرِها أكبرَ وأشدَّ حسب زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعلَ باعتبار أنه الحاملُ عليه، وقيل: هو حكايةٌ لما يقود إلى تجويزه مذهبُهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرُهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدِر على ما هو أشدُّ من ذلك، ويحكى أنه عليه السلام قال: {فعله كبيرُهم هذا} غضِبَ أن تُعبدَ معه هذه الصغارُ وهو أكبرُ منها فيكون تمثيلًا أراد به عليه السلام تنبيهَهم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنامَ، وأما ما قيل من أنه عليه السلام لم يقصد نسبة الفعل الصادرِ عنه إلى الصنم بل إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلُغ فيه غرضه من إلزامهم الحجةَ وتبكيتِهم ومُثِّل لذلك بما لو قال لك أمي فيما كتبتُه بخط رشيقٍ وأنت شهيرٌ بحسن الخطِّ: أأنت كتبْتَ؟ كان قصدُك تقريرَ الكتابة لنفسك مع الاستهزاء بالسائل لا نفيَها عنك وإثباتَها له فبمعزل من التحقيق لأن خلاصةَ المعنى في المثال المذكور مجردُ تقريرِ الكتابة لنفسك وإدعاءُ ظهور الأمر مع الاستهزاء بالسائل وتجهيلِه في السؤال لابتنائه على أن صدورَها عن غيرك محتملٌ عنده مع استحالته عندك، ولا ريب في أن مرادَه عليه السلام من إسناد الكسرِ إلى الصنم ليس مجردَ تقريرِه لنفسه ولا تجهيلَهم في سؤالهم لابتنائه على احتمال صدوره عن الغير عندهم، بل إنما مرادُه عليه السلام توجيهُهم نحو التأملِ في أحوال أصنامهم كما ينبىء عنه قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانوُاْ يَنطِقُونَ} أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطِقوا وإنما لم يقل عليه السلام: إن كانوا يسمعون أو يعقِلون مع أن السؤال موقوفٌ على السمع والعقل أيضًا، لما أن نتيجةَ السؤالِ هو الجوابُ وأن عدم نطقِهم أظهرُ وتبكيتَهم بذلك أدخلُ، وقد حصل ذلك أولًا حسبما نطق به قوله تعالى: {فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ} أي راجعوا عقولهم وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضَرّةِ عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسَره بوجه من الوجوه، يستحيل أن يقدر على دفع مضرَّةٍ عن غيره أو جلبِ منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودًا {فَقَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي بهذا السؤالِ لأنه كان على طريقة التوبيخِ المستتبِعِ للمؤاخذة أو بعبادة الأصنام، لا من ظلمتوه بقولكم: إنه لمن الظالمين أو أنتم الظالمون بعبادتها لا مَنْ كسرها.
{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤُوسَهُمْ} أي انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة، شبّه عودَهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشيءِ أعلاهـ. وقرئ نُكّسوا بالتشديد ونكَّسوا على البناء للفاعل أي نكّسوا أنفسَهم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} على إرادة القول أي قائلين: والله لقد علمت أنْ ليس شأنهم النطقُ فكيف تأمرُنا بسؤالهم؟ على أن المرادَ استمرارُ نفي النطقِ لا نفيُ استمراره كما تُوهمه صيغةُ المضارع.
{قَالَ} مبكّتًا لهم {أَفَتَعْبُدُونَ} أي أتعلمون ذلك فتعبدون {مِن دُونِ الله} أي متجاوزين عبادتَه تعالى: {مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا} من النفع {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} فإن العلمَ بحاله المنافيةِ للألوهية مما يوجب الاجتنابَ عن عبادته قطعًا.
{أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} تضجّرٌ منه عليه الصلاة والسلام من إصرارهم على الباطل البيّن، وإظهارُ الاسم الجليلِ في موضع الإضمارِ لمزيد استقباحِ ما فعلوا، وأفَ صوتُ المتضجِّر ومعناه قُبحًا ونتْنًا واللامُ لبيان المتأفَّفِ له {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون قبحَ صنيعكم. اهـ.